[size=47][rtl]
[size=47]الحروف في المدرسة العرفانية عالم قائم بذاته، يتميّز بمفاهيمه الخاصّة، وله منهجه المحدّد في الفهم. وإذا كانت كلمة الدارسين محلّلين وناقدين تكاد تجمع على أنّ للنص حضوره الفاعل في فكر المسلمين وثقافتهم، فلا ريب أنّ الحروف تحظى بمكانة في ثقافة العرفان لا تقلّ عن مكانة النصّ في ثقافة الفكر الإسلامي.
[/size][size=47]استيفاء الرؤية الوجودية عن الحروف يحتاج إلى بحث مطوّل لا يقلّ عن حجم أطول الفصول التي مرّت علينا في هذا القسم. ولمّا كان ذلك يخرجنا عن مدار الدراسة وهدفها الأساسي، فسنكتفي بلمحات سريعة مستفيدين من الفرصة التي أتاحها لنا البحث في الحروف المقطّعة.
[/size][size=47]يواجهنا التصوّر الوجودي بأنّ عالم الحروف هو تعبير عن امّة من الامم يشملها الخطاب ويطالها التكليف، وفيها رسل من جنسهم : «إنّ الحروف امّة من الامم مخاطبون ومكلّفون، وفيهم رسل من جنسهم، ولهم أسماء من حيث هم ...
[/size][size=47]وعالم الحروف أفصح العالم لسانا وأوضحه بيانا» (1). وبذلك عند ما تواجهنا المدرسة بتقسيمات لهذا العالم الخاصّ تشبه في أسلوبها التعاطي مع الكائنات العاقلة، فلا ينبغي حمل ذلك على المجاز، بل هو عين الحقيقة : «و اعلم أنّه ما قسّمنا الحروف تقسيم من يعقل على طريق التجوّز، بل ذلك على الحقيقة. فإنّ الحروف عندنا وعند أهل الكشف والإيمان حروف اللفظ وحروف الرقم وحروف التخيّل، امم من جملة الامم، لصورها أرواح مدبّرة، فهي حية ناطقة تسبّح اللّه بحمده طائعة ربّها» (2).
[/size][size=47]للحروف أقسام كأقسام العالم‏ (3)، وهي «على أربع مراتب» (4)، إذ منها «ما يلحق بعالم الجبروت، ومنها ما يلحق بعالم الملكوت، ومنها ما يلحق بعالم الملك» (5). فالهاء والهمزة يدخلان في عالم الجبروت في تصنيف أبي طالب المكّي، بينما تدخل حروف التاء والثاء والجيم إلى آخره في عالم الجبروت بحسب تصنيف ابن عربي، على حين تدخل الباء والميم والواو الصحيحة في عالم الملك والشهادة وهكذا (6).
[/size][size=47]علم الحروف في هذه المدرسة هو العلم العيسوي (نسبة إلى عيسى عليه السّلام) بامتياز : «إنّ العلم العيسوي هو علم الحروف. ولهذا أعطي النفخ، وهو الهواء الخارج من تجويف القلب الذي هو روح الحياة، فإذا انقطع الهواء في طريق خروجه إلى فم الجسد سمّي مواضع انقطاعه حروفا، فظهرت أعيان الحروف، فلمّا تألّفت ظهرت الأعيان الحسية في المعاني» (7).
[/size][size=47]على هذا فإنّ ظاهرة اللغة هي ظاهرة إلهية، بشرط أن ندرك العمق الكائن وراء حروف لغتنا الإنسانية، فهذه الحروف التي نتداول بها لغتنا هي أجسام أو صور، لها ما وراءها أسماء أو ملائكة تحفظها في عالم الأرواح، وتلك الملائكة هي أرواح هذه الحروف التي ننطقها، وهذه الحروف أجساد تلك الأرواح، والفعل للأرواح، ولولاها لما ظهر فعل من الحرف : «جميع الأسماء الإلهية المختصّة بهذا الإنسان الموصوف بهذه الصفة التي ينزل بها هذه المنازل، معلومة محصاة ... ولكلّ اسم من هذه الأسماء روحانية ملك تحفظه وتقوم به وتحفظها، لها صور في النفس الإنساني تسمّى حروفا في المخارج عند النطق وفي الخطّ عند الرقم، فتختلف صورها في الكتابة ولا تختلف في الرقم، وتسمّى هذه الملائكة الروحانيات في عالم الأرواح، بأسماء هذه الحروف، فلنذكرها على ترتيب المخارج حتّى تعرف رتبتها، فأوّلهم ملك الهاء ثمّ الهمزة، وملك العين [إلى أن يأتي على تعدادها حتّى آخرها ...] وهذه الملائكة أرواح هذه الحروف [التي ننطقها] وهذه الحروف [التي ننطقها] أجساد تلك الملائكة لفظا وخطا بأي قلم كانت.
[/size][size=47]فبهذه الأرواح تعمل الحروف لا بذواتها، أعني صورها المحسوسة ... فلا يتخيّل أنّ الحروف تعمل بصورها، وإنّما تعمل بأرواحها، ولكلّ حرف تسبيح‏ وتمجيد ... والحرف لو لا الروح ما ظهر منه فعل» (8).
[/size][size=47]هذه الحروف تتوازى في حقيقتها الوجودية ومراتبها مع الوجود ومراتبه، إذ مراتب الوجود بعدد الحروف، وعدد الحروف بعد مراتب الوجود : «فأمّا حصر العالم على عدد الحروف، من أجل النفس، في ثمانية وعشرين لا تزيد ولا تنقص» (9). ثمّ يعدّ تلك المراتب ثمانية وعشرين مرتبة بأسمائها على عدد الحروف.
[/size][size=47]وإذا كانت الحروف المقطّعة الأربعة عشر في أوائل السور (10)، تكتسب صفة الحروف الخاصّة، فإنّ الباء تمثّل خلاصة خاصّة الخاصّة دون غيرها من الحروف، ف «بالباء ظهر الوجود، وبالنقطة تميّز العابد من المعبود» (11). ومن خصائص هذه الحروف أيضا، أنّ لها ظاهرا وباطنا. وهذا ممّا ينسجم مع الرؤية الكونية العامة للمدرسة من جهة، ومع رؤيتها الخاصّة للحروف من جهة اخرى : «إنّ هذه الحروف الأربعة عشر التي في أوائل السور، كلّ حرف منها له ظاهر وهو صورته، وله باطن وهو روحه» (12).
[/size]موقف الإمام‏
[size=47]ينسجم الإمام في رؤيته للحروف مع هذا التصوّر تمام الانسجام. وهذا هو مقتضى الانتماء إلى المدرسة ومن لوازم تبنّي اصولها ومرتكزاتها.
[/size][size=47]بين أيدينا نصّ فذّ يختزل الرؤية بأكملها، ويعبّر عنها بإيجاز، حيث يكتب الإمام معبّرا عن قناعته بعالم الحروف : «يعرف من هذه الأخبار وغيرها ممّا روي في الأبواب المختلفة، أنّ عالم الحروف عالم قبال العوالم كلّها، وترتيبها أيضا مطابق مع ترتيبها. فالألف كأنّه يدلّ على واجب الوجود، والباء على المخلوق الأوّل، وهو العقل الأوّل والنور الأوّل، وهو بعينه نور نبيّنا صلّى اللّه عليه وآله وسلّم» (13).
[/size][size=47]ثمّ نماذج كثيرة في تراث الإمام تنسجم مع منهجية أسرار الحروف، يزاوج فيها بين الرؤية العرفانية للحروف وبعض المأثور. من ذلك، ما جاء من أنّ سورة الفاتحة فيها كلّ الكتاب، وهي باعتبار في البسملة، والأخيرة باعتبار في باء البسملة : «لكون فاتحة الكتاب فيها كلّ الكتاب، والفاتحة باعتبار الوجود الجمعي في (بسم اللّه الرحمن الرحيم)، وهو [الوجود الجمعي‏] في باء بسم اللّه، وهو في‏ نقطة تحت الباء. قال علي عليه السّلام : «أنا النقطة» (14). وورد : «بالباء ظهر الوجود، وبالنقطة تميّز العابد عن المعبود» (15).
[/size][size=47]في الاتجاه نفسه وتعزيزا لما مرّ، نقرأ أيضا : «و لهذا روي عن أمير المؤمنين وسيّد الموحدين صلوات اللّه عليه : أنّ كلّ ما في القرآن في الفاتحة، وكلّ ما في الفاتحة في بسم اللّه الرحمن الرحيم، وكلّ ما فيه في الباء، وكلّ ما في الباء في النقطة وأنا نقطة تحت الباء» (16).
[/size][size=47]كما كتب أيضا في تفسير البسملة بمنهجية أسرار الحروف : «قال بعض أعاظم المشايخ من أهل السير والمعرفة رضوان اللّه عليه في كتابه الموسوم ب «أسرار الصلاة» (17) في تفسير بسم اللّه الرحمن الرحيم بحسب أسرار الحروف بعد ذكر أخبار، منها ما روي في الكافي والتوحيد والمعاني، عن [size=43]العيّاشي[/size]، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام : «الباء بهاء اللّه، والسين سناء اللّه والميم مجد اللّه».
[/size][size=47]و القمي، عن الباقر والصادق والرضا عليهم السّلام مثله، ولكن بدل مجد اللّه «ملك اللّه» (18). ثمّ ذكر نص عبارة صاحب «أسرار الصلاة» عن الحروف، ممّا أتينا على‏ نقله قبل قليل، دون أن يعترض عليها، وإن ناقشه في مسائل اخرى، ممّا يدلّ على انسجامه مع هذا المنحى.
[/size][size=47]في موضع آخر يتناول الإمام، الاسم الأعظم في اللفظ والعبارة والحروف بعد أن تحدّث عنه كحقيقة وجودية، فكان ممّا ذكره : «و أمّا حقيقته بحسب اللفظ والعبارة، فعلمها عند الأولياء المرضيّين والعلماء الراسخين، ومخفية عن ساير الخلق. وما ذكر من حروف الاسم الأعظم أو كلماته في كتب القوم من العرفاء والمشايخ، إمّا من الآثار النبوية أو من أثر الكشف والرياضة عند الخلوص عن دار الوحشة والظلمة، كما نقل عن الشيخ مؤيّد الدين الجندي أحد شرّاح الفصوص أنّ من أسماء هذا الاسم، هو : اللّه المحيط والقدير والحي والقيّوم، ومن حروفه : أ، د، ذ، ر، ز، و».
[/size][size=47]ثمّ نقل كلام ابن عربي في دلالات هذه الحروف عليه، بقوله : «و قال الشيخ الكبير في الفتوحات : (الألف) هو النفس الرحماني الذي هو الوجود المنبسط، و(الدال) حقيقة الجسم الكلّي، و(الذال) المتغذّي، و(الراء) هو الحسّاس المتحرّك، و(الزاء) الناطق، و(الواو) حقيقة المرتبة الإنسانية، وانحصرت حقائق عالم الملك والشهادة المسمّى بعالم الكون والفساد في هذه الحروف. انتهى كلامه» (19).
[/size][size=47]هذه اللمحات والنصوص التي سقناها على نحو عابر، تدلّل على انسجام الإمام مع الرؤية العرفانية لعالم الحروف ، التي أنتجت فيما أنتجته تفسيره الخاص للحروف المقطّعة وفواتح السور.
[/size][size=47]___________________ 
[/size](1)- الفتوحات المكّية 1 : 58.
[size=47](2)- نفس المصدر 4 : 90.
[/size][size=47](3)- نفس المصدر 1 : 58.
[/size][size=47](4)- نفس المصدر : 52.
[/size][size=47](5)- نفس المصدر 4 : 90.
[/size][size=47](6)- تنظر تفاصيل هذه العوالم وتصنيفاتها : الفتوحات المكّية 1 : 52 و58 ومواضع اخرى.
[/size][size=47](7)- نفس المصدر 1 : 168.
[/size][size=47](8)- نفس المصدر 2 : 448.
[/size][size=47](9)- نفس المصدر 2 : 395.
[/size][size=47](10)- عدد الحروف المقطّعة التي افتتحت بها السور التسعة وعشرين، هو (78) حرفا مع التكرار، وأربعة عشر حرفا بحذف التكرار.
[/size][size=47](11)- الفتوحات المكّية 1 : 102.
[/size][size=47](12)- نفس المصدر 2 : 449.
[/size][size=47](13)- شرح دعاء السحر : 22، ويلاحظ أنّه بالإضافة إلى انسجام هذا الرأي مع المدرسة العرفانية، فهو يلتقي كذلك مع التفسير الذي تبنّاه ابن سينا للحروف المقطّعة، وأفرد له رسالة خاصّة نالت استحسان صدر الدين الشيرازي. ففي تفسيره ذهب الشيخ الرئيس أنّ الألف ينبغي أن يدلّ في ترتيب أبجد هوّز على الباري لأنّه أوّل الموجودات، والباء على العقل وعالمه لأنّه يتلوه في الموجود، والجيم على النفس وعالمها، والدال على الطبيعة وعالمها، وهكذا إلى آخر ما ذكره من تفاصيل وأحوال. راجع : الرسالة النوروزية لابن سينا، نقلا عن :
[/size][size=47]تفسير القرآن الكريم 6 : 15 فما بعد.
[/size][size=47](14)- راجع في مصدر الحديث : ينابيع المودة 1 : 68.
[/size][size=47](15)- شرح دعاء السحر : 52. وقد مرّ علينا قبل ذلك مصدر نص : «بالباء ظهر الوجود» في «الفتوحات المكّية»، لكن الإمام يذكر أنّ هذا النص هو ممّا ورد في بعض الأخبار من طريق أهل البيت عليهم السّلام. (راجع : شرح دعاء السحر : 29).
[/size][size=47](16)- شرح دعاء السحر : 88.
[/size][size=47](17)- هو الشيخ جواد ملكي التبريزي، أمضى شطرا من حياته في النجف الأشرف، ثمّ قفل عائدا إلى إيران سنة 1320 ه، حيث توفى فيها سنة 1343 ه. من مؤلفاته : أسرار الصلاة، المراقبات، رسالة لقاء اللّه.
[/size][size=47](18)- شرح دعاء السحر : 22.
[/size][size=47](19)- نفس المصدر : 85- 86.[/size]
[/rtl][/size]