[size=41]ونبقى في ظلال نهج البلاغة لسيِّدنا أمير المؤمنين علي(ع)، حيث ينساب الكلام الّذي يخاطب الألباب، ويلهب النفوس والمشاعر حبّاً بالله وإيماناً به، ويغذّي العقل والروح، ويفتح المدارك على آفاق الحقّ والحقيقة، وكما قال الرّسول الأكرم(ص): "كلام عليّ دون كلام الخالق، وفوق كلام المخلوقين".
يقول الإمام عليّ(ع): "أوَّل الدِّين معرفته، وكمال معرفته التّصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه، لشهادة كلّ صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كلّ موصوف أنه غير الصّفة، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثناه، ومن ثناه فقد جزّأه، ومن جزّأه فقد جهله، ومن جهله فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حدَّه، ومن حدَّه فقد عدَّه، ومن قال "فِيمَ" فقد ضمَّنهُ، ومن قال "علام؟" فقد أخلى منه.
كائنٌ لا عن حدَثٍ، موجودٌ لا عن عدم، مع كلّ شيء لا بمقارنة، وغيرُ كلّ شيء لا بمزايلة، فاعل لا بمعنى الحركات والآلة، بصيرٌ إذ لا منظور إليه من خلقه، متوحِّدٌ إذ لا سكن يستأنسُ به، ولا يستوحش لفقده" .
يتعرَّض أمير المؤمنين(ع) هنا إلى موضوع الذّات الإلهيَّة، ونفي الصّفات المحدودة عنها، حيث إنّه سبحانه وصفَ ذاته في كتابه العزيز. والأفهام البشريّة لا يمكن أن تبلغ دقّة هذه الصّفات، وأن تحوي مكنوناتها، والحديث هنا عن صفات الله وحقيقتها.
"أوَّل الدّين معرفته"، فمنتهى طاعة الله تعالى والانقياد له، هو في معرفته والعلم بقدرته وعظمته، ومن هنا، يعلم الإنسان ما عليه من مسؤوليَّات تجاه نفسه وربه، فعندما يعرف الله، يعرف ما عليه من واجبات تجاهه، فيصلح نفسه، ويعدُّ العدَّة لليوم الآخر، ويتزوّد بالتّقوى، ويتدرّج بالمعرفة النافعة.
"وكمال معرفته التّصديق به"، إنَّ معرفة الباري تستوجب أن نؤمن به عن قناعة تامّة واختيار وإرادة وحريّة ويقينٍ لا تشوبه شائبة، فالتّصديق هو الإقرار الحرّ بربوبيّة الله تعالى.
"وكمال التّصديق به توحيده"، إذ لا بدَّ للإنسان المؤمن كي يستوي إيمانه ويصحّ، أن ينزِّه الخالق وينفي الشّريك عنه، فالتّصديق الحرّ لا يمكن أن يجتمع معه الشّرك، مهما كان نوعه، خفيّاً أو ظاهراً.
"وكمال توحيده الإخلاص له"، وهو الإقرار بأنَّ الله تعالى غنيّ عن كلِّ شيء، وإليه يفتقر كلّ شيء، وليس كمثله شيء، وفي ذلك مدعاة للإنسان كي يتوجَّه بقلبٍ مخلص إلى الربِّ الحقيقيّ في كلِّ صغيرة وكبيرة، وأن يكون توجّهه صادقاً خالياً من الشكّ والريبة.
"وكمال الإخلاص له نفي الصّفات عنه"؛ نفي الصفات الخارجة عن الذّات، لا نفي الصفات التي هي عين الذّات، فإخلاصنا هو في فهمنا لمعاني هذه الصّفات وكمالها على الوجه التامّ.
"لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف"، فالصفة تابعة للموصوف وجوداً وعدماً، والصّفة تدلّ على نفسها بنفسها.
"وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصّفة"، فالله تعالى غنيّ عن الصفات، وهي في حاجة إليه، ويستحيل نسبة الصّفة إليه تعالى بمعناها الحقيقيّ، وإلا لزم أنَّ الذات الإلهيّة مركّبة، وهذا باطل، والصفة مجرد إشارة إلى تفرّده تعالى في الجلال والكمال.
"فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه"، فمن أراد الصّفة بأنها غير الموصوف، فقد جعل له قريناً، وليس لله صاحب ولا صاحبة، وقد وقع البعض من أهل العقائد في هذه الإشكاليّة.
"ومن قرنه فقد ثنَّاه"، أي جعله اثنين، والله واحد لا شريك له، "ومن ثنّاه فقد جزّأه"، يعني من ثنّاه فقد قسّمه، والأزليّ الأبدي لا ينقسم، إضافةً إلى أنّ القسمة تتنافى مع الكمال المطلق.
"ومن جزّأه فقد جهله"، يعني من قسَّمه فقد جهل مقام الله، وتقوّل عليه بغير حقّ، وتخبَّط في الجهل.
"ومن جهله فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حدَّه"، يعني مَنْ وقع في الجهل فقد شخَّصه، وما كان مشخَّصاً، عندها يمكن الإشارة إليه حسيّاً وعقليّاً، وهذا لا يعقل في حقّ الله تعالى، فالله تعالى لا يدركه وهم الواهمين، ولا يُشخِّصه عقل.
"ومن حدَّه فقد عدَّه"، أي أحصاه وأحاط به، والإنسان لا يستطيع إدراك كلِّ خصائص الكائنات، فكيف يدرك بعقله المحدود ما لا بداية له ولا نهاية..
"ومن قال فيمَ فقد ضمَّنه"، أي نسب الزّمان والمكان إليه، والله تعالى لا يخلو منه زمان ولا مكان، ونسبته إلى كلّ شيء واحدة، بلا آلة أو حركة، ولا يجري عيه السكون والحركة.
"ومن قال عَلامَ فقد أخلى منه"، فالله معتمد على قدرته، ولا اعتماد له على شيء إطلاقاً، والّذي يعتمد على سواه هو الضّعيف القاصر، أي من سأل: علامَ يعتمد الله؟ فقد وقع في الجهالة.
"كائنٌ لا حدَثٍ"، مثلاً تقول لشيءٍ ما هذا حدث، أي لم يكن موجوداً فوجد، وهذا لا ينطبق على الذّات الإلهيّة، فهو الموجود قبل كلّ موجودٍ، والباقي بعد فناء كلّ موجود، فالله تعالى أزليّ لا أوّل له ولا آخر.
"موجودٌ لا عن عدم"، أي أنّ الله تعالى لم يكن مسبوقاً بالعدم ثم وُجد، بل الموجود بلا عدم قبله، لأنَّ أزله سبق العدم، وهو مبدأ كلّ شيء، وإليه ينتهي كلّ شيء.
"مع كلّ شيء لا بمقاربة، وغيرُ كلّ شيء لا بمزايلة"، ومعنى ذلك، أنّه تعالى مع كلّ شيء بعلمه وقدرته، وبعيد عن كلّ شيء بكُنهه وحقيقته.. فلا اتحاد ولا انفصال، ولكن صلة بين الخالق والمخلوق، وبين العلّة والمعلول.
"فاعلٌ لا بمعنى الحركات والآلة"، فهذا الفاعل بلا آلة وحركة، وفعله عين إرادته، يقول تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[يس: 82].
"بصيرٌ إذ لا منظور إليه من خلقه، متوحِّدٌ إذ لا سكن يسأنس به، ولا يستوحش لفقده"، فالله تعالى يقول: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ}[الأنعام: 103]، والله تعالى واحد ومتوحِّد، بمعنى لا يفتقد الجليس والأنيس، والله منزّهٌ عن القلّة والضّعف والوحشة والاستئناس، والمراد بوحدته تفرّده بالسّلطان والكمال.
من خلال اطّلاعنا على ما يوضحه أمير المؤمنين عليّ(ع) في صفات الله، فإنَّنا لا بدَّ من أن تُثار فينا الأحاسيس والمشاعر، وتفتح القلوب والعقول على الحقّ، وعلى فعل ما يقرّبنا من الله تعالى، بأن نستشعر عظمته، ونعيش تلك العظمة الّتي تسكن في عروقنا، وتستوطن في ضمائرنا، فننفتح على الله تعالى بكلّيّتنا، ولا نترك فرصةً إلا ونتفكّر في هذه العظمة في أنفسنا وفي الآفاق.
*إنَّ الآراء الواردة في هذا المقال، لا تعبِّر بالضَّرورة عن رأي الموقع، وإنّما عن وجهة نظر صاحبها.
[/size]