بسم الله تعالى
اللَّهُمَّ صلى على محمد وآل محمد وعجل فرجهم والعن اعدائهم
هذه مقطوعة من كتاب الاسرار الفاطمية للفائدة العامة
أكد القرآن الكريم في كثير من آياته الـمباركة على اطلاع الباري عزّ وجل على خائنة العين وما تخفي الصدور ، ويعني هذا أن الله يعلـم السر وما أخفى ، وهو ما أضمره الإنسان وأسرّه ثمّ نسيه ( والله يعلـم ما تسرون وما تعلنون )(1) ، وايضاً جاء قوله تعالى ( وأسروا قولكم أو اجهروا به ، أنه عليم بذات الصدور )(2). ليؤكد هذه الحقيقة ، حقيقة السر الذي يكتمه الأنسان على غيره ولكن لا يخفى على الله تعالى أي سرٌ لأنّ الله تعالى خالق الإنسان في هذا العالـم وإلى ذلك أشار القرآن ( قل أنزله الذي يعلـم السر في السموات والأرض ، إنه كان غفوراً رحيما )(3) ، فيعلـم الله تعال حقيقة أسرار الناس وما يكتمون ، إلاّ أنّه هناك اسرار مودعة من قبل الله تعالى عند كثير من الأولياء وخصوصاً الأنبياء والـمرسلين وعباد الله الصالحين حيث أمرهم بحفظها ولا يظهروها إلا لـمن هو أهل لها ، ولنعم ما قيل في الشعر الـمنسوب الى مولى الـموحدين أمير الـمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام حيث قال :
وإلى ذلك أشار الفرزدق :
____________
(1) النحل : 19.
(2) الـملك 13.
(3) الفرقان 6.
( 44 )
اذن الأسرار الـمودعة من قبل الله تعالى عند الأنبياء والـمرسلين وعباد الله الصالحين هي أمانات وكما ورد في الـمثل الذي يقول « السر أمانة فانظر عند من تضع أمانتك ».
وقال الله تعالى : ( ان الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها )(1).
وأسرار الله تعالى كلها أماناته في أرضه وقلوب أوليائه ولا إجازة لهتكها وكشف قناعها إلا بين يدي صاحبها الذي هو أهلٌ لها وهذا أمرٌ أمر الله تعالى به عباده الـمخلصين من الأنبياء والأولياء ـ عليهم السلام ـ وبالغ معهم ، وأمرهم ايضاً ان يأمروا بذلك الـمؤمنين ويبالغوا فيه ، حتى قالوا « افشاء سر الربوبية كفر وهتك استار الألوهية زندقة » وقالوا « لا تضعوا الحكمة عند غير أهلها ، فتظلـموها ، ولا تمنعوها من أهلها فتظلـموهم كونوا كالطبيب الشفيق يضع الدواء موضع الداء ».
وقالوا في الشعر الـمنسوب الفارسي « فمن منع الجهال علـماً أضاعه ومن منع الـمستوجبين فقد ظلـم » ، وأقوالهم الشاهدة بذلك واشاراتهم الدالة عليه أشهر وأظهر من أن تخفى على أحد ، ومع ذلك نحن نذكر بعض ذلك استظهاراً لك ولغيرك لئلا يهمله أحد ويوقع نفسه في الهلاك الأبدي والشقاء السرمدي ، حيث جاء قوله تعالى تعليماً لعباده وتأكيداً لهم في أداء الأمانة التي هي أسراره إلى أهلها ( أنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها ، وحملها الإنسان أنه كان ظلوماً جهولاً )(2).
والـمراد انه يقول : الذي هم الـملائكة والجن والحيوانات والوحوش الطيور وغير ذلك ـ أو على استعداد كل واحد من السماوات والأرض والجبال بنفسها ، لانها عند الأكثرين شاعرة بذاتها ـ لاجل ايداع أمانتنا التي هي أسرارنا فما وجدنا أهلاً لها ومستعدين لحملها لعدم قابليتهم وضعف استعدادهم لأن حمل الشيء وقبوله موقوف على قابليه ذلك الشيء واسعداده ووجدنا الإنسان أهلاً لها ومستعداً لحملها فأمرناه بحملها وأشرنا إليه بقبولها لأنّه كان « ظلوما جهولاً » أي بسبب أنه كان مستعداً لها ومستحقاً لحملها « بظلوميته وجهوليته ».
____________
(1) النساء : آية 58.
(2) الأحزاب : آية 72.
( 45 )
فكأنه يقول : ان السبب الأعظم والـمُمَد الأعلى في أهليته لهذه الأمانة الـمعروضة على السماوات والأرض والجبال ومافيها من الـمخلوقات كان « ظلوميته وجهوليته » لانه لو لـم يكن مستحقا لحملها ومستعداً لقبولها لكان كغيره من الـموجودات لعدم هاتين الصفتين فيه ، وعلى هذا التقدير تكون صفتا « الظلومية والجهولية » مدحاً له « يعني للإنسان » لا مذمة كما ذهب إليه أكثر الـمفسرين(1) ، ولا شك انه كذلك واللام في « لانه » لام التعليل لا غير ، ليعرف به هذا الـمعنى والـمراد بالإنسان نوعه وبالحمل استعداده للحمل وقابليته له. وهذا هو الـمعنى الـمطابق للامانة والعرض والحمل والقبول والإباء اجمالاً لاغير ، وإلاّ الأمانة ما كانت شيئاً محسوساً معروضاً على كل واحد من الـموجوادات حساً وشهادة ولا كان آباؤهم عنها قولاً وفعلاً ، كما يرسخ في اذهان الـمحجوبين عنها . اذن بما أنه تعالى مع عظمة شأنه وجلالة قدره لـم يضع ويدع الأمانة إلا عند أهلها ، ولـم يأذن بها إلا إلى صاحبها فلا ينبغي ان يفعل غيره بخلاف ذلك وإلا يكون مخالفاً لأمره سالكاً غيره طريقه وايضاً لو لـم تكن رعاية الأمانة عنده عظيمة ما مدح بنفسه للراغبين أمانته ، وما سلكهم في سلك الـمصلين الصلاة الحقيقية ، وما جعلهم من الوارثين ( قد افلح الـمؤمنون الذي هم في صلاتهم خاشعون ، والذين هم عن اللغو معرضون ، والذين هم للزكاة فاعلون ) إلى قوله تعالى ( اولئك هم الوارثون الذي هم يرثون الفردوس هم فيها خالدون ) فحيث مدحهم على ذلك وسلكهم في سلك هؤلاء الـمعظمين بل قدمهم عليهم وجعلهم من الوارثين « الذين يرثون الفردوس » فعرفنا ان رعايتها « يعني رعاية الأمانة » معتبرة وقدرها جليل وشأنها عظيم وبالجملة الخيانة في هذه الأمانة هي أيداعها عند غير أهلها ، وامساكها عن أهلها ، وكلاهما غير جائز وإليه أشار جل ذكره في قوله ( يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وانتم تعلـمون ) أي « لا تخونوا الله والرسول » بأيداع أسرارهم عند غير أهلها « وأنتم تعلـمون » عاقبة الخائن وصعوبة عذابه وشدة عقوبته : ( ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ) اي ذلك القول « وصاكم به
____________
(1) راجع تفسير الـميزان : 16 | 356 ، حيث فيه القول الفصل لهذا الـموضوع.
____________
(1) راجع تفسير الـميزان : 16 | 356 ، حيث فيه القول الفصل لهذا الـموضوع.
( 46 )
لعلكم تتقون » عنها أي تحتزرون عن الخيانة بعد ذلك وتعظمون مكانتها . جعلنا الله من الحاملين أمانته والراعين عهده ، الـموفين به الوارثين جنته ، بمحمد وآله أجمعين.
واذ فرغنا من كلام الله تعالى ، فلنشرع في كلام الأنبياء عليهم السلام ومنها قول النبي صلى الله عليه وآله وسلـم « من وضع الحكمة في غير أهلها جهل ، ومن منع عن أهلها ظلـم » « ان للحكمة حقاً ، وان لها أهلاً : فأعط كل ذي حق حقه » وقوله صلى الله عليه وآله وسلـم « ان من العلـم كهيئة الـمكنون ، لا يعلـمه غلا أهل الـمعرفة بالله ، فاذا نطقوا به لـم يجهله إلا أهل الاغترار بالله » وغير ذلك من الأقوال الـمعلومة لأهلها.
والغرض انه صلى الله عليه وآله وسلـم أمر بذلك وفعل بنفسه ، لأنه إذا أراد إيداع مثل هذه الأسرار في قلوب أصحابه وخواصه كان يخلو بهم ويقول في آذانهم ، كما فعل بأمير الـمؤمنين علي عليه السلام وأخبر عنه أمير الـمؤمنين بقوله « تعلـمت من رسول الله ألف باب من العلـم ، وفتح الله تعالى لي بكل باب ألف باب » وإلى كتمانه واخفائه بنفسه عن الأغيار أشار أيضاً بقوله « اندمجت على مكنون علـم ، لو أبحث به لا ضطربتم اضطراب الارشية في الطوى البعيدة ». والى ثمرة أظهاره ـ أعني من الفساد ـ أشار أيضاً وقال « والله لو شئت أن أخبر بكل رجل منكم بمخرجه ومولجه وجميع شأنه لفعلت ولكني أخاف أن يكفروا برسول الله » وهذا أمر منه بأخفاء اسرار الله وكتمانها وكناية عن أخفائها ولهذا لـما قال له الخصم « أنت تتكلـم بالغيب » قال ويحك ! ان هذا ليس بغيب ، ولكنّه علـم تعلـمتُ من ذي علـم » أراد به النبي صلى الله عليه وآله وسلـم.
وكما فعل بسلـمان ايضاً ، أي جعله صاحب سّر وقال فيه : « سلـمان منّا أهل البيت » أي من أهل بيت التوحيد والعلـم والـمعرفة والحكمة لا من أهل بيت النسوان والصبيان والاهل والاولاد ، وقال تأكيداً لهذا الـمعنى « لو علـم أبو ذر ما فيبطن سلـمان من الحكمة لكفره ! » وروي « لقتله! » وكلاهما صحيح فأنظر إلى عظمة السر الـمودع عند سلـمان ، وعلى الـمبالغة في كتمان أسرار الله تعالى حيث عرفت أنّ كبار الصحابة كانوا يخفون بعضهم عن بعض حتى النبي صلى الله عليه وآله وسلـم ولعظمة أن سلـمان وقربه إلى حضرة الرحمان قال عليه السلام « الجنة أشوق الى سلـمان من سلـمان الى الجنة » وكذلك لجلالة قدر أويس القرني رحمه الله لا طلاعه على أسرار الله تعالى كشفا وذوقا ، قال صلى الله عليه وآله وسلـم في حقه حيث كان
( 47 )
يستنشق من طرف اليمن روائح أنفاسه الشريفة من حيث الباطن أو الظاهر : « أني لأستنشق روح الرحمن من طرف اليمن » وورد « من ناحية اليمن » و « من قبل اليمن » وقد سأله سلـمان عن هذا الشخص فقال له عليه السلام : « ان باليمن لشخصاً يقال له : « أويس القرني يحشر يوم القيامة أمة وحده يدخل في شفاعته مثل ربيعة ومضر ، ألا من رآه منكم فليقرأه عني السلام ، ليأمره أن يدعو لي ».
وإلى غلبة هذه الأسرار بالنسبة إليه في بعض الأوقات قال :
« لي مع الله وقت لا يسعني فيه مقرب ولا نبي مرسل » والـمراد أنّ لي مع الله حالات وأوقات لا يمكن ان يطلع عليها أحد ، لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا غيرهم من الـمخلوقات ، وكأنه يشير الى أنه ما تنكشف عليه هذه الاسرار ولا تتجلى له هذه الأنوار إلاّ عنده تجرده عن جميع التعلقات الروحانية والجسمانية ـ حتى النبوة والرسالة ـ وعن جبرئيل وابلاغه أيضاً لقوله عليه السلام : « لو دنوت أنملة لا حترقت » وبالحقيقة الـمعراج عبارة عن هذا الـمقام ، إن اُريد به العراج الـمعنوي ، وإن اُريد به الـمعراج الصوري فهو ظاهر وقد عبر عليه السلام عن شدة تعلقه بالنبوة والرسالة ومنعهما من الوصول إلى حضرة الحق جل جلاله وقال حين خلاصه عنهم لحظة « لا يسعني فيه ملك مقرب أي جبرئيل وابلاغه « ولا نبي مرسل » أي النبوة ورسالتهما لأن الرسالة ابلاغ ما حصل عن النبوة وإلى هذا الـمقام أشار ـ جل ذكره ـ « ولن أجد من دونه ملحداً إلاّ بلاغاً من الله ورسالاته » وأمثال ذلك كثيرة. والغرض منه أنّ إخفاء أسرار الله تعالى ـ خصوصاً الأسرار الـمتعلقة بهم ـ واجب من غير أهلها لأنها لا زالت كذلك أي مخفية عن غير أهلها ، مودعة عند أهلها ، وإذا عرفت هذا فلنرجع إلى قول الأولياء عليهم السلام أعني اكتفينا منهم بأعظمهم وأكملهم الذي هو نبينا صلى الله عليه وآله وسلـم ومنها قول أمير الـمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وأقواله في هذا الباب كثيرة نذكر منها أحسنها وألطفها ، وهو ما جرى بينه وبين كميل بن زياد النخعي رحمه الله الذي كان من أخص تلامذته وأعظم أصحابه وإليه تنسب خرقة الـموحدين وطريقة الـمتحققين حين سأله عن « الحقيقة » بقوله « ما الحقيقة ! » فقال له عليه السلام : « مالك والحقيقة ؟ » يعني من أنت
( 48 )
والسؤال عن الحقيقة ولست بأهلها ! فقال كميل : « أولست بصاحب سرك ؟ » قال : « بلى ولكن يرشح عليك ما يطفح منّي » يعني أنت صاحب سري ومن أخص تلامذتي ولكن لست بأهل لـمثل هذا السر والإطلاع عليه لأنه « يرشح عليك ما يطفح من » و « إلاّ كان الأمر » يضرك ويضرني لأن ظرفك لا يحتمل فوق قدرك ، وأنا مأمور بوضع الشيء في موضعه ، فقال كميل : « أومثلك يخيب سائلاً ؟ » أي مثلك في العلوم والحقائق والإطلاع على استعداد كل سائل « يخيب سائلاً » أي يمنعه عن حقه ويجعله محروماً عن مراده ، خائباً عن مقصوده ، ساكتاً عن جوابه ؟ لا والله بل يجب عليك وعلى مثلك جواب كل واحد منهم بقدر استعداده وفهمه وادراكه مطاوعة لقوله تعالى : ( أما السائل فلا تنهر وأما بنعمة ربك فحدّث ) وأسوة نبيك صلى الله عليه وآله وسلـم لقوله « كلـموا الناس على قدر عقولهم » فشرع الإمام عليه السلام بعد ذلك في بيانه وقال : الحقيقة كشف سبحات الجلال من غير إشارة ، فقال كميل : زدني فيه بياناً ، قال الإمام عليه السلام : صحو الـموهوم مع محو الـملعوم.
قال كميل : زدني فيه بياناً ، قال الإمام عليه السلام : هتك السر لغلبة الستر. قال كميل : زدني فيه بياناً. قال الإمام عليه السلام : نور يشرق من صبح الأزل ، فيلوج على هياكل التوحيد آثاره . قال كميل : زدني فيه بياناً ، قال الإمام عليه السلام : أطف السراج ، فقد طلع الصبح.
وهذا الكلام يحتاج إلى شرح طويل وبسط عظيم ، ولكن معنى الكلام الأخير انه يقول : اسكت بعد ذلك أي بعد هذا البيان التام والإظهار الكامل والكشف الجلي ، عن السؤال من لسان العقل ومقام القلب ومرتبة السلوك ، لأنه قد طلع تباشير شمس الحقيقة وظهر شعاعها في الآفاق ، ولست أنت بعد ذلك ، محتاجاً إلى السؤال من لسان العقل الذي كالسراج بالنسبة للشمس.
والـمراد أن الشخص إذا وصل إلى مقام الـمشاهدة والكشف فلا ينبغي له أن يطلب الـمقصود من طريق الـمجادلة والـمباحثة لأنّ الكشفيات والذوقيات غير قابلة للعبارة والاشارة والسؤال والجواب كما أشار إليه أولا : « كشف سبحات الجلال من غير اشارة » فكأنه أمره بالسكوت والصمت والتوجه إلى حضرته تعالى حتى يدرك مقصوده بالذوق الذي هو أعلى مراتب الوصول إلى الله تعالى ، وعن هذا الـمقام قال
( 49 )
العارف : « من عرف الله كلَّ لسانه » أي « من عرف الله » على سبيل الـمشاهدة والذوق « كلَّ لسانه » عن العبارة والاشارة والغرض من هذا كله ان الإمام عليه السلام اذا كان بأفشاء الأسرار اللهية من أعظم خواصه وأكبر تلامذته بهذه الـمثابة ، فلا يجوز لغيره افشاؤها مع كل أحد من العوام والجهال ، فاذن عليك بكلتمانها واخفائها عن غير أهلها اتباعاً لله تعالى ولرسوله ولإمام الـمسلـمين كافة.
ويروى عن كميل رضي الله عنه مثل ذلك أيضاً وأبلغ في كتمان الأسرار واخفائها ، كما هو مذكور في نهج البلاغة ، وهو أنه قال رضي الله عنه : « أخذ بيدي أمير الـمؤمنين علي عليه السلام فأخرجني الى الجبّابة فلـمّا أصحر ، تنفس الصعداء ، ثم قال لي : يا كميل بن زياد! « إنّ هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها فأحفظ عنّي ما أقول لك : الناس ثلاثة : فعالـم رباني ومتعلـم على سبيل نجاة ، وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح لـم يستضيؤا بنور العلـم ، ولـم يلجأ وإلى ركن وثيق.
يا كميل : العلـم خير من الـمال ، العلـم يحرسك وأنت تحرس الـمال ، والـمال تنقصه النفقة ، والعلـم يزكو على الإنفاق وصنيع الـمال يزول بزواله ، يا كميل ! معرفة العلـم دين يدان به ، به يكسب الإنسان الطاعة في حياته وجميل الاحدوثة بعد وفاته ، العلـم حاكم والـمال محكوم عليه ، يا كميل بن زياد : هلك خزان الاموال وهم أحياء والعلـماء باقون ما بقي الدهر ، أعيانهم مفقودة وأمثالهم في القلوب موجودة ؟ إنّ ههنا لعلّماً جماً ـ وأشار بيده إلى صدره ـ لو أصبت له حملة ! بلى ! أصبت لقناً غير مأمون عليه ، مستعملاً آلة الدين للدنيا ، ومستظهراً بنعم الله تعالى على عباده ، وبحججه على أوليائه ، أو منقاداً لحملة الحقّ لا بصيرة له في أحنائه ، ينقدح الشك في قلبه لاول عارض من شبهة : ألا ! لاذا ولاذاك ، أو منهوماً باللذة ـ سلس القيادة للشهوة ، أو مغرماً بالجمع والادخار ليس من رعاة الدين في شيء أقرب شيء شبهاً بهما الانعام السائمة ، كذلك يموت العلـم بموت حامليه ، اللَّهُمَّ بلى : لا تخلو الأرض من قائم الله بحججه ، إمّا ظاهراً مشهوراً أو خائفاً مغموراً ، لئلا تبطل حجج الله وبيّناته ، ولـم ذا ؟ وأين أولائك ـ لا والله ـ الاقلون عدداً . والاعظمون عند الله قدراً ، يهم يحفظ الله تعالى حججه وبيناته ، حتى يودعوها نظراءهم ، ويزرعوها في قلوب أشباهههم ، هجم بهم العلـم على حقيقة البصيرة ،
( 50 )
وباشروا ردح اليقين ، واستلانوا ما استوعره الـمترفون ، وانسوا بما استوحش منه الجاهلون ، وصحبوا الدنيا بأدبانٍ أرواحها معلقة بالـمحل الاعلى أولائك خلفاء الله في أرضه ، والدعاة إلى دينه ، آه ، آه ! شوقاً الى رؤيتهم ».
واذ فرغنا من كلامه في كتمان الأسرار والـمبالغة فيه بقدر هذا الـمقام ، فلنشرع فيه من كلام الأئمة الـمعصومين من أولاده عليهم السلام ومبالغة في هذه الـمقدمة ، وان قيل : يكفي في هذه الـمقدمة ما قدمتم من آية أو آيتين ، وخبر أو خبرين لأنّ الـمقصود يحصل منهما ، فلا فائدة في التطويل وزيادة في الكلام ؟ أجيب عنه بأن الـمراد ليس نفس الاخفاء ولا الكتمان ، بل هناك غرض آخر يفهم من البحث الاتي في آخر هذه العجالة وهو معرفة حقيقة السر الـمستودع في فاطمة وهل هو ظاهر أم مستور ستره الله عن جميع البشر إلا الأولياء الخلص ، وبقية الأغراض سوف تظهر من بعد ذلك.
ومنها قول الأئمة الـمعصومين من أهل بيت النبي ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ وهو أنّه مرويٌّ برواية صحيحة عن احدهم عليهم السلام قال : « أن أمرنا صعب مستعصب ، لا يحتمله إلاّ ملك مقرب ، أو نبي مرسل ، أو مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان » ، وقال : « خالطوا الناس بما يعرفون ودعوهم بما ينكرون ،ولا تحملوا على أنفسكم وعلينا ، أنّ أمرنا صعب مستعصب ، لا يحتمله إلا ملك مقرب أو نبي مرسل ، أو مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان »(1).
وروى محمد بن عبدالجبار عن الحسين بن الحسين اللؤلؤي عن محمد بن الهيثم ، عن ابيه ، عن أبي حمزة الثمالي ، قال : « سمعت أبا جعفر « يعني الإمام الباقر » ـ يقول : أمرنا صعب مستصعب لا يحتمله إلا ملك مقرب ، أو نبي مرسل ، أو مؤمن امتحنه الله قلبه للإيمان. ثم قال : يا أبا حمزة ! ألست تعلـم أنّ من الـملائكة مقرباً وغير مقرب ؟ ومن النبيين مرسلاً ، وغير مرسل ؟ وفي الـمؤمنين ممتحناً وغير ممتحن ؟ قال : قلب بلى ؟ ألا ترى صعوبة أمرنا ؟ ان الله تعالى أختار له من الـملائكة الـمقرب ومن النبيين الـمرسل ومن الـمؤمنين الـممتحن ».
____________